بسم الله حمن الرحيم
فتح الباري ج: 11 ص: 430
6192 - قوله حدثنا موسى هو بن إسماعيل ووهيب هو بن خالد وعمرو هو بن يحيى المازني وأبوه يحيى هو بن عمارة بن أبي حسن المازني قوله إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يقول الله تعالى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من ايمان فاخرجوه هكذا روى يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري اخر الحديث ولم يذكر أوله ورواه عطاء بن يسار عن أبي سعيد مطولا وأوله الرؤية وكشف الساق والعرض ونصب الصراط والمرور عليه وسقوط من يسقط وشفاعة المؤمنين في اخوانهم وقول الله اخرجوا من عرفتم صورته وفيه من في قلبه مثقال دينار وغير ذلك وفيه قول الله تعالى شفعت الملائكة والنبيون والمؤمنون ولم يبق الا ارحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد صاروا حمما وقد ساق المصنف أكثره في تفسير سورة النساء وساقه بتمامه في كتاب التوحيد وسأذكر فوائده في شرح حديث الباب الذي يلي هذا مع الإشارة الى ما تضمنته هذه الطريق ان شاء الله تعالى وتقدمت لهذه الرواية طريق أخرى في كتاب الإيمان في باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال وتقدم ما يتعلق بذلك هناك واستدل الغزالي بقوله من كان في قلبه على نجاة من أيقن بذلك وحال بينه وبين النطق به الموت وقال في حق من قدر على ذلك فأخر فمات يحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة فيكون غير مخلد في النار ويحتمل غير ذلك ورجح غيره الثاني فيحتاج الى تأويل قوله في قلبه فيقدر فيه محذوف تقديره منضما الى النطق به مع القدرة عليه الحديث الرابع عشر حديث النعمان بن بشير أورده من وجهين أحدهما أعلى من الاخر لكن في العالي عنعنة أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي وفي النازل تصريحه بالسماع فانجبر ما فاته من العلو الحسي بالعلو المعنوي وإسرائيل في الطريقين هو بن يونس بن أبي إسحاق المذكور والنعمان هو بن بشير بن سعد الأنصاري ووقع مصرحا به في رواية مسلم عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار جميعا عن غندر ووقع في رواية يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق سمعت النعمان بن بشير الأنصاري يقول فذكر الحديث
فتح الباري ج: 11 ص: 457
قال النووي وظاهر الحديث أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة وهي الجبهة واليدان والركبتان والقدمان وبهذا جزم بعض العلماء وقال عياض ذكر الصورة ودارات الوجوه يدل على ان المراد بأثر السجود الوجه خاصة خلافا لمن قال يشمل الأعضاء السبعة ويؤيد اختصاص الوجه ان في بقية الحديث ان منهم من غاب في النار الى نصف ساقيه وفي حديث سمرة عند مسلم والى ركبتيه وفي رواية هشام بن سعد في حديث أبي سعيد والى حقوه قال النووي وما أنكره هو المختار ولا يمنع من ذلك قوله في الحديث الاخر في مسلم ان قوما يخرجون من النار يحترقون فيها الا دارات وجوهم فإنه يحمل على أن هؤلاء قوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار فيكون الحديث خاصا بهم وغيره عاما فيحمل على عمومه الا ما خص منه قلت ان أراد أن هؤلاء يخصون بأن النار لا تأكل وجوههم كلها وأن غيرهم لا تأكل منهم محل السجود خاصة وهو الجبهة سلم من الاعتراض والا يلزمه تسليم ما قال القاضي في حق الجميع الا هؤلاء وان كانت علامتهم الغرة كما تقدم النقل عمن قاله وما تعقبه بأنها خاصة بهذه الأمة فيضاف إليها التحجيل وهو في اليدين والقدمين مما يصل اليه الوضوء فيكون اشمل مما قاله النووي من جهة دخول جميع اليدين والرجلين لا تخصيص الكفين والقدمين ولكن ينقص منه الركبتان وما استدل به القاضي من بقية الحديث لا يمنع سلامة هذه الأعضاء مع الانغمار لان تلك الأحوال الاخروية خارجة على قياس أحوال أهل الدنيا ودل التنصيص على دارات الوجوه ان الوجه كله لا تؤثر فيه النار اكراما لمحل السجود ويحمل الاقتصار عليها على التنويه بها لشرفها وقد استنبط بن أبي جمرة من هذا ان من كان مسلما ولكنه كان لا يصلى لا يخرج إذ لا علامة له لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة لعموم قوله لم يعملوا خيرا قط وهو مذكور في حديث أبي سعيد الاتي في التوحيد وهل المراد بمن يسلم من الاحراق من كان يسجد أو أعم من ان يكون بالفعل أو القوة الثاني أظهر ليدخل فيه من أسلم مثلا وأخلص فبغته الموت قبل أن يسجد ووجدت بخط أبي رحمة الله تعالى ولم اسمعه منه من نظمه ما يوافق مختار النووي وهو قوله يا رب أعضاء السجود عتقتها من عبدك الجاني وأنت الواقي والعتق يسري بالغنى ياذا الغنى فامنن على الفاني بعتق الباقي
فتح الباري ج: 13 ص: 429
قرأت في تنقيح الزركشي وقع هنا في حديث أبي سعيد بعد شفاعة الأنبياء فيقول الله بقيت شفاعتي فيخرج من النار من لم يعمل خيرا وتمسك به بعضهم في تجويز إخراج غير المؤمنين من النار ورد بوجهين أحدهما أن هذه الزيادة ضعيفة لأنها غير متصلة كما قال عبد الحق في الجمع والثاني ان المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين كما تدل عليه بقية الأحاديث هكذا قال والوجه الأول غلط منه فان الرواية متصلة هنا وأما نسبة ذلك لعبد الحق فغلط على غلط لأنه لم يقله الا في طريق أخرى وقع فيها أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة خردل من خير قال هذه الرواية غير متصلة ولما ساق حديث أبي سعيد الذي في هذا الباب ساقه بلفظ البخاري ولم يتعقبه بأنه غير متصل ولو قال ذلك لتعقبناه عليه فإنه لا انقطاع في السند أصلا ثم ان لفظ حديث أبي سعيد هنا ليس كما ساقه الزركشي وانما فيه فيقول الجبار بقيت شفاعتي فيخرج أقواما قد امتحشوا ثم قال في آخره فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الرحمن ادخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه فيجوز ان يكون الزركشي ذكره بالمعنى
شرح النووي على صحيح مسلم ج: 3 ص: 31
قوله سبحانه وتعالى من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير ونصف مثقال من خير ومثقال ذرة قال القاضي عياض رحمه الله قيل معنى الخير هنا اليقين قال والصحيح أن معناه شئ زائد على مجرد الايمان لأن الايمان الذي هو التصديق لا يتجزأ وانما يكون هذا التجزؤ لشئ زائد عليه من عمل صالح أو ذكر خفي أو عمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى ونية صادقة ويدل عليه قوله في الرواية الاخرى في الكتاب يخرج من النار من قال لا اله الا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا ومثله الرواية الأخرى يقول الله تعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق الا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط وفي الحديث الآخر لأخرجن من قال لا اله الا الله قال القاضي رحمه الله فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الايمان وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم وانما دلت الآثار على أنه أذن لمن عنده شئ زائد على مجرد الايمان وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين صلوات الله وسلامه عليهم دليلا عليه وتفرد الله عز وجل بعلم ما تكنه القلوب والرحمة لمن ليس عنده الا مجرد الايمان وضرب بمثقال الذرة المثل لأقل الخير فانها أقل المقادير قال القاضى وقوله تعالى من كان في قلبه ذرة وكذا دليل على أنه لا ينفع من العمل الا ما حضر له القلب وصحبته نية وفيه دليل على زيادة الايمان ونقصانه وهو مذهب أهل السنة هذا آخر كلام القاضي رحمه الله والله أعلم قوله صلى الله عليه وسلم ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا هكذا هو خيرا باسكان الياء أى صاحب خير قوله سبحانه وتعالى شفعت الملائكة هو بفتح الفاء وانما ذكرته وان كان ظاهرا لأنى رأيت من يصحفه ولا خلاف فيه يقال شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع والمشفع بكسر الفاء الذى يقبل الشفاعة والمشفع بفتحها الذى تقبل شفاعته قوله صلى الله عليه وسلم فيقبض قبضة من النار معناه يجمع جماعة قوله صلى الله عليه وسلم فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما معنى عادوا صاروا وليس بلازم في عاد أن يصير الى حالة كان عليه قبل ذلك بلا معناه صار وأما الحمم فبضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة وهو الفحم الواحدة حممة والله أعلم
التمهيد لابن عبد البر ج: 18 ص: 40
عن عقبة بن عبدالغافر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا فيمن كان سلف ثم ذكر نحوه قال أبو عمر روي من حديث أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال قال رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد وهذه اللفظة إن صحت رفعت الإشكال في إيمان هذا الرجل وإن لم تصح من جهة النقل فهي صحيحة من جهة المعنى والأصول كلها تعضدها والنظر يوجبها لأنه محال غير جائز أن يغفر للذين يموتون وهم كفار لأن الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به لمن مات كافرا وهذا ما لا مدفع له ولا خلاف فيه بين أهل القبلة وفي هذا الأصل ما يدلك على أن قوله في هذا الحديث لم يعمل حسنة قط أو لم يعمل خيرا قط لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير وهذا سائغ في لسان العرب جائز في لغتها أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض والدليل على أن الرجل كان مؤمنا قوله حين قيل له لم فعلت هذا فقال من خشيتك يا رب والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق بل ما تكاد تكون إلا لمؤمن عالم كما قال الله عز وجل من عباده العلماء قالوا كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه ومستحيل أن يخافه من لا يؤمن به وهذا واضح لمن فهم وألهم رشده ومثل هذا الحديث في المعنى ما حدثناه عبدالوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبو صالح حدثني الليث عن ابن العجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن رجلا لم يعمل خيرا قط وكان يداين الناس فيقول لرسوله خذ ما يسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا فلما هلك قال الله هل عملت خيرا قط قال لا إلا أنه كان لي غلام فكنت أداين الناس فإذا بعثته يتقاضى قلت له خذ ما يسر واترك ما عسر وتجاوز لعل الله يتجاوز عنا قال الله قد تجاوزت عنك قال ابو عمر فقول هذا الرجل الذي لم يعمل خيرا قط غير تجاوزه عن غرمائه لعل الله يتجاوز عنا إيمان وإقرار بالرب ومجازاته
التخويف من النار ج: 1 ص: 186
الباب الثامن والعشرون في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين قد تقدم في الأحاديث الصحيحة أن الموحدين يمرون على الصراط فينجو منهم من ينجو ويقع منهم من يقع في النار فإذا دخل أهل الجنة فقدوا من وقع من إخوانهم الموحدين في النار فيسألون الله عز وجل إخراجهم منها روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل سبق منه ذكر المرور على الصراط ثم قال حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا إنهم كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى ركبتيه فيقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول لهم ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه نصف مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجوه خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا بإخراجه أحدا فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا فيقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما النساء فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج بها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل وذكر بقية الحديث خرجاه في الصحيحين ولفظه لمسلم والمراد بقوله لم يعملوا خيرا قط من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيرا قط غير التوحيد خرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا ومن حديث ابن مسعود موقوفا ويشهد لهذا ما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة قال فأقول يا رب ائذن لي فيمن يقول لا إله إلا الله فيقول وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله خرجاه في الصحيحن وعند مسلم فيقول ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك وهذا يدل على أن الذين يخرجهم اللهم برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا معها خيرا قط بجوارحهم والله أعلم وروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوضع الصراط بين ظهراني جهنم عليه حسك كحسك السعدان ثم يستجيز الناس فناج مسلم ومجروح به ناج ومحتبس منكوس فيها فإذا فرغ الله من القضاء بين العباد وتفقد المؤمنون رجالا في الدنيا كانوا يصلون بصلاتهم ويزكون زكاتهم ويصومون صومهم ويحجون حجهم ويغزون غزوهم فيقولون أي ربنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدنيا يصلون بصلاتنا ويزكون زكاتنا ويصومون صومنا ويحجون حجنا ويغزون غزون ولا نراهم فيقول عز وجل اذهبوا إلى النار فمن وجدتموه فيها فأخرجوه قال فيخرجونهم وقد أخذتهم النار على قدر أعمالهم فمنهم من اخذته إلى قدميه ومنهم من أخذته إلى ركبيته ومنهم من أخذته إلى أزرته ومنهم من أخذته إلى ثديه ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه قال فيستخرجونهم ثم يطرحون في ماء الحياة قيل يا نبي الله وما ماء الحياة قال غسل أهل الجنة قال فينبتون فيها كما تنبت الزرعة في غثاء السيل ثم تشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا فيستخرجونهم منها ثم يتحنن الله برحمته على من فيها فما يترك فيها عبدا في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا أخرجه منها خرجه الحاكم وقال صحيح الإسناد
جامع العلوم والحكم ج: 1 ص: 29
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه إذا صلى على الميت اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان لأن الأعمال بالجوارح وإنما يتمكن منه في الحياة فأما عند الموت فلا يبقى غير التصديق بالقلب ومن هنا قال المحققون من العلماء كل مؤمن مسلم فإن من حقق الإيمان ورسخ في قلبه قام بأعمال الإسلام كما قال صلى الله عليه وسلم ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في أعمال الإسلام وليس كل مسلم مؤمنا فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا فلا يتحقق القلب به تحقيقا تاما عمل مع جوارحه أعمال الإسلام فيكون مسلما وليس بمؤمن الإيمان التام كما قال تعالى قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا الحجرات فلم يكونوا منافقين بالكلية على أصح التفسيرين وهو قول ابن عباس وغيره بل كان إيمانهم ضعيفا ويدل عليه قوله تعالى وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا الحجرات يعني لا ينقصكم من جورها فدل على أن معهم من الإيمان ما يقبل به أعمالهم وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص لما قال له لم تعط فلانا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم يشير إلى أنه لم يتحقق فإنما هو في مقام الإسلام الظاهر ولا ريب أنه متي ضعف الإيمان الباطن لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة أيضا لكن اسم الإيمان ينفي عمن ترك شيئا من واجباته كما في قوله لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقد اختلف أهل السنة هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان أو يقال ليس بمؤمن لكنه مسلم على قولين وهما روايتان عن أحمد وأما اسم الإسلام فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته أو انتهاك بعض محرماته وإنما ينفي بالإتيان بما ينافيه بالكلية ولايعرف في شيء من السنة الصحيحة نفى الإسلام عمن ترك شيئا من واجباته كما ينفي الإيمان عمن ترك شيئا من واجباته وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على فعل بعض المحرمات وإطلاق النفاق أيضا وقد اختلف العلماء هل يسمى مرتكب الكبائر كافرا صغيرا أو منافقا النفاق الأصغر ولا أعلم أن أحدا منهم أجاز إطلاق نفى اسم الإسلام عنه إلا أنه روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ما تارك الزكاة بمسلم ويحتمل أنه كان يراه كافرا بذلك خارجا عن الإسلام وكذلك روي عن عمر فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين والظاهر أنه كان يعتقد كفرهم ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية بقوله لم يدخلوا في الإسلام بعد فهم مستمرون على كتابيتهم وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه ويخرج عن الملة بالكلية فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح دخل فيه الإيمان كله من التصديق وغيره كما سبق في حديث عمرو بن عنبسة وخرج النسائي من حديث عقبة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغارت على قوم فقال رجل منهم إنى مسلم فقتله رجل من السرية فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا فقال الرجل إنما قالها تعوذا من القتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله أبي على أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة لم يصر من قال أنا مسلم مؤمنا بمجرد هذا القول وقد أخبر الله تعالى عن ملكة سبأ أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة قالت رب إنى ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين النمل وأخبر عن يوسف عليه السلام أنه دعا بأن يموت على الإسلام وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل في الإيمان من التصديق وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عدي أسلم تسلم قلت وما الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد إنى رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع وليس المراد الإتيان بلفظهما دون التصديق بهما فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام وقد فسر الإسلام المذكور في قوله تعالى إن الدين عند الله الإسلام آل عمران بالتوحيد والتصديق طائفة من السلف منهم محمد بن جعفر بن الزبير وأما إذا نفي الإيمان عن أحد وأثبت له الإسلام كالأعراب الذين أخبر الله عنهم فإنه ينتفي عنهم رسوخ الإيمان في القلب وتثبت لهم المشاركة في أعمال الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل إذ لولا هذا القدر من الإيمان لم يكونوا مسلمين وإنما نفي عنهم الإيمان لانتفاء ذوق حقائقه ونقص بعض واجباته وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب يتفاضل وهذا هو الصحيح وهو أصح الروايتين عن أبي عبدالله أحمد بن حنبل فإن إيمان الصديقين الذين يتجلى الغيب لقلوبهم يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لدخله الشك ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم مرتبة الإحسان أن يعبد العبد ربه كأنه يراه وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين ومن هنا قال بعضهم ما سبقكم أبو بكر رضي الله عنه بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره وسئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كانت الصحابة رضي الله عنهم يضحكون فقال نعم وإن الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال فأين هذا ممن الإيمان في قلبه ما يزن ذرة أو شعيرة كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار فهؤلاء يصح أن يقال لم يدخل الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم وهذه المسائل أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائل عظيمة جدا فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية وأدخلوهم في دائرة الكفر معاملة الكفار واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم ثم حدث بعدهم خلاف بالمنزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين ثم حدث خلاف المرجئة وقولهم إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة وممن صنف في الإيمان من أئمة السلف الإمام أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن أسلم الطوسي وكثرت فيه التصانيف بعدهم من جميع الطوائف وقد ذكرنا هنا نكتة جامعة لأصول كثيرة من هذه المسائل والاختلاف فيها وفيه إن شاء الله كفاية
الإيمان لابن منده ج: 1 ص: 331
ذكر اختلاف أقاويل الناس في الإيمان ما هو فقالت طائفة من المرجئة الإيمان فعل القلب دون اللسان وقالت طائفة منهم الإيمان فعل اللسان دون القلب وهم أهل الغلو في الإرجاء اه وقال جمهور أهل الإرجاء الإيمان هو فعل القلب واللسان جميعا اه وقالت الخوارج الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح اه وقال آخرون الإيمان فعل القلب واللسان مع اجتناب الكبائر اه وقال أهل الجماعة الإيمان هي الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلا وفرعا فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان مع الخضوع له والحب له والخوف منه والتعظيم له مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان ولزمه اسمه وأحكامه ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه وفرعه المفترض عليه أو الفرائض واجتناب المحارم وقد جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الإيمان بضع وسبعون أو ستون شعبة أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان فجعل الإيمان شعبا بعضها باللسان والشفتين وبعضها بالقلب وبعضها بسائر الجوارح اه فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان تقول شهدت أشهد شهادة اه والشهادة فعله بالقلب واللسان لا اختلاف بين المسلمين في ذلك والحياء في القلب وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح اه
شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للغنيمان - (ج 2 / ص 335)
- قال: (( حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فو الله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت؟ قال: من خشيتك، وأنت أعلم، فغفر له )).
الظاهر أن هذا الرجل من بني إسرائيل، ولهذا أورده المصنف رحمه الله في أحاديث بني إسرائيل.
وقوله: (( لم يعمل خيراً قط )) الظاهر أن المقصود عمل الجوارح، وأن عنده أصل الإيمان في قلبه، فهو مؤمن بالله، وبالجزاء والحساب، وهذا واضح من قوله: (( فعلت ذلك من خشيتك وأنت أعلم ))، ومن قوله: (( فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني ))... الخ.
وفي الرواية التي في أحاديث الأنبياء: (( وكان رجل يسرف على نفسه )) (1) .
منقول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق